الإسلام والوجود الدولي للمسلمين

تُقدِّم مجلة الأزهر الشريف لقرائها كتاب “الإسلام والوجود الدولي للمسلمين”، بقلم فضيلة الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الأسبق، هدية للقراء، مع عدد شهر جمادى الأول 1446 هجرية.
يَذكُرُ فضيلة الشيخ محمود شلتوت في مقدمة كتابه أنه كان للمسلمين -باعتبارهم جماعة من الجماعات- أحداث هي عناصر قويَّة في بناء الوجود الدولي لهم، وكان شأنهم في تذكرها شأن كل مجتمع بشري يتحسس مواضع الضعف في سيره فيتّقيها، وعوامل القوة والتقدم فينّميها.
ويصرِّح الشيخ شلتوت في الكتاب أن الهجرة كانت مبدأ الوجود الدولي للمسلمين الذين لم يكونوا قبلها إلا أفرادًا مضطهدين مبعثرين، صار لهم بها وحدة لها شعارها الخاص، ونظامها الخاص، وهدفها الخاص، مشيرًا إلى أن المبادئ متى تركَّزت وآمنت بها القلوب وامتلأت بها النفوس؛ كانت لدى أصحابها أعز من نفوسهم وأموالهم ومن كل ما يملكون، لافتًا إلى أنَّ صاحب العقيدة العالمية، والمبادئ الإنسانية العامة، لا يقف بجهوده في سبيل عقيدته أو مبدئه في أماكن محدودة وإنما يسمو بعقيدته ومبدئه عن التقيد بالجنسيات والأقاليم، والعالم كله ميدان لعمله، فإذا ما نبا به مكان تحوَّل إلى غيره؛ حيث يجد التربة الخصبة للإنبات والإثمار.
ويشير شلتوت إلى أن الإسلام شريعة أنزلت على محمد -صلوات الله عليه- لتقيم بناءً عالميًّا إنسانيًّا، يُسهم في مد البشرية بإشعاعات تضيء لها الطريق إلى الخير والحق والجمال. و محمد -صلوات الله وسلامه عليه- هو المؤسِّس الأول لهذا البناء، بتوجيه من الله عزَّ وجلَّ، وقد أقامه بيديه على أساس من كتاب الله، وهو المصدَر الأول للتشريع السماوي، لافتًا إلى أن هذا البناء الإسلامي في طور تكوينه قد واجه كثيرًا من العواصف، كما مرَّت بمؤسسه ألوان من الإرهاق نتيجة للمؤامرات التي حِيكت في الظلام، والخطط التي رسمت في وضح النهار للإتيان على البناء قبل أن يتكامل، والقضاء على مؤسسه قبل أن يؤدي واجبه.
إلا أنَّه بعد بضع سنوات كانت كلها كِفاحًا وتجارب، استطاع الإسلام أن يكتب صفحات من الاستقرار الكامل لبنائه، والوجود الدولي للمسلمين، فقد تمَّ فتح مكة، وألقى الطغاة آخر سلاح في أيديهم، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولم يصبح من السهولة بعدئذ أن تنال قوى الشر والطغيان شيئًا من هذا البناء.
ويذكر شلتوت أن المؤسس الأول -صلوات الله عليه- لحق بربِّه، بعد أن تكامل البناء الإسلامي، وبعد أن ترك للمسلمين من المقدسات ما يهب لهم أسعد حياة لو أنَّهم التزموا الجادة، وترك للبشرية قاطبة من المثل والقيم والمبادئ ما يرتفع بالإنسانية إلى أسمى درجات السمو لو أنها اعتنقتها، وبعد أن أقام للإسلام دولة ترهب صولتها، وأسس للمسلمين وجودًا يحسب له ألف حساب، كما لحق المؤسس الأول بربه وهو مطمئنٌّ إلى أنه قد أدى الرسالة كما يجب أن تُؤدَّى، وأجرى مراسيم الشريعة الناضجة كما يجب أن تُجرى، لتأخذ بيد المسلمين إلى العزة والكرامة، ولتصبح لهم بعد ذلك ذكريات لأحداث إسلامية ضخام، ستظل معهم إلى الأبد منابع لأسمى المعاني وأعظم القيم والمثل، يحتفون بها ويحتفلون، بمثابة أعياد تفرح فيها النفوس، وتبتهج القلوب، وتنتعش الأرواح.
وينبِّه فضيلة الشيخ محمود شلتوت أن هذه الأحداث الإسلامية لو أحسنا استقبالها، وتفهمنا أسرارها، وأخذنا أنفسنا بما توحي به من دروس المجد والعظمة، لكان لنا بين الأمم الحاضرة شأن، وأي شأن، ومقام وأي مقام، نطالع فيها أسباب العزة والمجد، ونتلقَّى عنها دروس الحياة القوية الناهضة، بها نعرف أنَّ أسلافنا ما عرفتهم العزة عفوًا، ولا هبطت عليهم منحًا، وإنما وصلوا إليها بالجِدِّ والعمل والمثابرة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فعلينا أن نفقهها واحدة فواحدة، وأن نتعرَّف فيها مواطن العظة والاعتبار، ونتخذ منها مصابيح الهداية والإرشاد، فتسمو حياتنا، وتنظر إلينا أرواح الأولين وهي في عليين نظرة الفرح والابتهاج بمحافظتنا على مقدساتهم وسيرنا في سبيلهم.