عسكرة الفضاء الخارجى
كان ضبط النفس الاستراتيجى هو النهج السائد تاريخيا بين الدول المرتادة للفضاء؛ حيث أدركت جميعها أن استدامة الوصول إلى الفضاء واستخدامه يتطلبان كبح التهديدات، والأنشطة التى قد تعرض استقرار السلام والأمن فى الفضاء للخطر، ولكن حدث فى الآونة الأخيرة تحول ملحوظ فى الخطاب الدولى ليكون أكثر هجومية فى مجال الدفاع العسكرى فى الفضاء، وسط حالة من انعدام الشفافية بشأن القدرات والنيات الفعلية لكيانات الفضاء الفاعلة، وصفها البعض بأنها عودة إلى سباق تسلح يستهدف تعزيز القدرات الدفاعية وعسكرة للفضاء دون ضمانات كافية لأمان الأنشطة الفضائية. وفى هذا المسار نجد أن الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب قام بإنشاء قوة فضائية مستقلة تمثل الفرع السادس للقوات المسلحة الأمريكية، وتأسيس قيادة عسكرية أمريكية خاصة بالفضاء بمقر وزارة الدفاع.
فى فرنسا أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى يوليو ٢٠١٩ “أن فرنسا ستنشئ قوة فضائية داخل قواتها الجوية بهدف تعزيز المعرفة بالوضع فى الفضاء، وحماية أقمارها الصناعية”. وانضمت اليابان كذلك إلى صفوف تلك الدول التى ترصد المزيد من مخصصات ميزانيتها لتطوير قدراتها الدفاعية ومواردها فى الفضاء؛ فقامت بزيادة استثماراتها فى مجال الدفاع الفضائى وتعزيز قدراتها فى هذا المجال.
تعد الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية من أهم مظاهر عسكرة الفضاء الخارجى، لا سيما مع توسع الكثير من الدول فى تجارب تطويرها، ومن ذلك قيام الصين عام 2007 باختبار أسلحة مضادة للأقمار الصناعية ASATبالصعود المباشر ضد أحد أقمارها الصناعية القديمة للطقس؛ وقيام الهند عام 2019 باختبار مماثل لسلاح مضاد للأقمار الصناعية ASAT؛ لتدمير واحد من أقمارها الصناعية فى المدار الأرضى المنخفض باستخدام صاروخ صعود مباشر. وفى عام 2021 أجرت روسيا اختبارا لسلاح مضاد للأقمار الصناعية استهدف قمرا صناعيا روسيا على ارتفاع يبلغ ٤٨٠ كيلومترا فوق سطح الأرض، وقد أشارت تقديرات الاختبار إلى أنه يتوقع أن ينتج عن الاختبار ما يزيد على ١٥٠٠ قطعة من الحطام القابل للتتبع فى المدار، بالإضافة إلى مئات الآلاف من القطع الأصغر حجما. ونظرا لقرب محطة الفضاء الدولية من سحابة الحطام التى نشأت عن اختبار السلاح الروسى المضاد للأقمار الصناعية، اُضطُرَّ رواد الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية لاتخاذ إجراءات طارئة. وعقب ذلك الحادث، أدلى وزير الخارجية الأمريكى أنتونى ج. بلينكن ببيان مفاده أن الحطام الفضائى سيشكل تهديدا حرجا وخطيرا للأقمار الصناعية والأجسام الفضائية الأخرى فى العقود المقبلة. ومع تزايد دور الأقمار الصناعية العسكرية فى الحروب، أصبح استخدام أسلحة ASATمصدرَ قلقٍ كبيرا بين الدول لما يسفر عنها من كميات هائلة من الحطام الفضائى تتراكم فى المدارات حول الأرض ليكون مآلها هو الاصطدام العشوائى بالأقمار الصناعية، أو العودة والاحتراق عند دخول الغلاف الجوى، ما يرتب انتهاكا لجميع معايير البيئة والاستدامة والأمان فى القانون الدولى الإنسانى.فضلا عن تتسبب قطع الحطام السابحة فى التشويش على الإشارات، التى من شأنها أن تجعل الأجهزة على الأرض معطلة أو تعمل على نحو خاطئ؛ ما قد يؤدى إلى وقوع ضحايا مدنيين أو عسكريين دون تمييز. ومن ذلك ما قام به الجيش الروسى عام ٢٠١٨ من تشويش على أحد الأقمار لنظام تحديد المواقع العالمى (GPS)، خلال إحدى المناورات العسكرية لحلف شمال الأطلسى (الناتو)، ما تسبب فى النهاية فى خطر جسيم على كل من الطائرات العسكرية والتجارية على حد سواء.
وبالنظر لقواعد القانون الدولى نجد أنه لا توجد قواعد أو أعراف صريحة تُجرم استخدام الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، فعلى الرغم من وعى المجتمع الدولى بالحطام الفضائى الناجم عن هذه الاختبارات وبمخاطر تكوين سحابات حطام فضائى تهدد استدامة بيئة الفضاء بأكملها، لم يتم التوصل إلى معايير موحدة تنظم استخدام هذه الأسلحة؛ ما يجعل من تلك الأسلحة مجالا لسباق تسلح فضائى من شأنه أن يزيد التوترات الدولية ويعقد العلاقات الدولية، بصورة تُلزم المجتمع الدولى بأن يعمل بشكل حازم على تنظيم ومراقبة التسلح فى الفضاء الخارجى بهدف الحفاظ على السلام والاستقرار الدوليين؛ ومن هنا تظهر الحاجة إلى تجريم استخدام أو اختبار الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، من أجل منع جعل الفضاء الخارجى مسرحا لاستعراض القوى عبر ترك العنان لتجارب الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، ما يخلق تحديات جديدة لقضية ضمان سلامة المجتمع الدولى وأمنه.