الجاسوس الذي خطفته المخابرات المصرية في الصندوق ( الحلقة الأولى)

“إذا قررت يوماً اللعب مع الأفاعي إما أن تكون أحد الحواة أو تكون ميتاً”،ربما تنطبق تلك القاعدة على من يظن أنه يمكن أن يخدع أجهزة المخابرات التي قرر التعامل معها ووافق على شروطها، لأن العاقبة في معظم الأحوال ستكون وخيمة فربما تكون سجيناً او مقتولاً ولا تستبعد أبداً أن تجد نفسك مقيداً داخل صندوق في طريقه للشحن مع حقائب السفر.
في مساء إحدي الليالي الباردة من شهر نوفمبر عام ١٩٦٤ و في المدرج رقم ٦ في مطارِ فيوميتشينو بروما كانت إحدي طائرات الركاب التابعة للخطوط الجوية العربية المتحدة المتجهة إلى القاهرة في إطار الاستعداد للإقلاع بعد أن تأخرت ساعتين عن موعد اقلاعها.
رصد مجموعة من رجال الجمارك الإيطاليين شاحنة تابعة لشركة الطيران في اتجاهها نحو الطائرة، بعد توقف السيارة تحت جناح الطائرة قفز من مقعدها الأمامي رجلان و قاما بفتح باب السيارة الخلفي و أخذا في إنزال صندوق معدني ضخم.
الصندوق الذي وصل طوله الى ١٢٠ سنتيمتر كان يحمل عبارة أمتعة دبلوماسية كتبت باللغة العربية و الإنجليزية و الفرنسية، كما كتب عليه ايضاً ” القاهرة ملك لسفارة الجمهورية العربية في روما”.
كان الصندوق ثقيلاً جداً لدرجة ان الرجلين استعانا بأحد رجال الجمارك الطليان للمساعدة في حمله.
كان أحد رجال الجمارك الطليان يجيد التحدث بالعربية فسمع المصريين يتكلمون عن ضرورة إرسال الصندوق الي عنبر الحيوانات.
تلك العبارة التي دفعته لسؤالهم عن محتويات الصندوق وكانت إجابة المصريين انها آلات موسيقية يرسلها السفير الي مصر.
اقترب احدهم من الصندوق في محاولة لرؤية ما بداخله، فنهره أحد المصريين باعتبار أنها أمتعة ديبلوماسية لا يحق لهم تفتيشها، لكن رجل الجمارك الإيطالي كان قد سمع صوت استغاثة قادماً من داخل الصندوق وعندما أنصت آكثر كانت الاستغاثة تأتي بشكل أكثر وضوحاً باللغات الإنجليزية ثم بالإيطالية و أخيراً بالفرنسية.
هناك شخص ما داخل الصندوق وقف رجل الجمارك الايطالي قائلا في حزم شديد “لن نسمح للطائرة بمغادرة المطار ما لم يتم فتح الصندوق وفحصه جيدا”.
موردخاي بن مسعود لوك ولد في المغرب عام ١٩٤٤ ثم هاجر والداه إلي فلسطين المحتلة وهو في الخامسة من عمره،
بعد أن أنهى المرحلة الثانوية التحق بالجيش الصهيوني، كما تعلم ايضا مهنة النجارة.
و على الرغم من عمله في الجيش و عمله الإضافي في النجارة إلاّ أن دخله لم يكن ليرضي طموحاته في تحقيق الحياة المترفة، خاصة بعد زواجه.
تعددت علاقاته النسائية و أدمن على الشراب فقام بالعديد من عمليات السرقة و المقامرة أملاً في الحصول على ما يكفيه من أموال لكنه أدين في بعضها و دخل السجن عدة مرات
قرر لوك الهروب من الكيان الصهيوني المحتل و الرحيل إلى مصر بحثاً عن فرص أفضل للعيش.
في عام ١٩٦١ و أثناء تواجده مع إحدي الدوريات العسكرية الصهيونية بالقرب من قطاع غزة تسلل لوك إلي الحدود المصرية،
فور عبوره الحدود ب ١٠٠ متر فقط ألقت القوات المصرية القبض عليه وقاموا بوضعه في السجن قبل أن يخضع للتحقيق المفصل.
يحكي موردخاي لوك أنه قابل العديد من الصهاينة معه في السجن منهم من اقترف جرائم صغيرة مثله بحثاً عن فرصة عمل أفضل في مصر و آخرون كانوا قوادون اعتقدوا انهم سيحققون في القاهرة أرباحا أكثر من تل ابيب لكنهم جميعاً وقعوا في قبضة الامن المصري.
بعد تحقيق سريع أجراه معه رجال المخابرات المصرية لم يخفي عنهم لوك أي شيء عن حياته و عمله في الجيش الصهيوني حتى علاقاته النسائية ودخوله السجن في قضايا سرقة بالإكراه وتزوير، بل أنه عرض عليهم العمل لصالح مصر ضد الكيان الصهيوني.
بعد تأكد المخابرات المصرية من صدق المعلومات التي ذكرها لوك و أنه ليس عميلا للموساد قرروا تركه فترة داخل السجن حتى يصبح مهيأ لقبول المهام التي يمكن أن توكل اليه.
عندما طالت مدة حبسه حاول لوك الانتحار أكثر من مرة إما بقطع شرايينه أو بالقفز من النافذة، لكنه فشل في كل المحاولات وتم إسعافه و نقله إلي المشفى.
عندها قرر رجال المخابرات المصرية بدء تنفيذ الخطة التي وضعت له،فقد كان لوك شابا ذكيا ووسيما ويتحدث العديد من اللغات.
في البداية عرضوا عليه العمل في المحطات الإذاعية المصرية الموجهة باللغة العبرية و كان يقدم رسائل لليهود الموجودين في الداخل الفلسطيني المحتل تحثهم على الخروج من الظلم و التمييز الذي يتعرضون له تحت الحكم الصهيوني، ثم قامت المخابرات بعمل برنامج تدريبي له على كافة أشكال التجسس من فنون التصوير و جمع المعلومات و الهروب من المراقبة و التشفير.
كان هدف المخابرات إعادة زرع لوك وسط الجاليات اليهودية في اوروبا.
تحت اسم يوسف جورج دهان اليهودي المغربي ومن خلال مكتب تجارى اتخذه كستار، سافر موردخاي لوك الي نابولي لتكون محطة البداية في أوروبا ومن هناك أخذ يتنقل الي باريس و بون و بدأ في أداء مهمته على أكمل وجه بجمع كل ما يقع عليه من معلومات عن الكيان الصهيوني في فلسطين والجاليات اليهودية وأنشطتهم في أوروبا و إرسالها الي مصر.
كانت تلك الحياة بالضبط هي ما يريده لوك من حرية و انطلاق و استمتاع بالشرب ومرافقة النساء.
بعد عامين من التعاون مع المخابرات المصرية بدأ لوك في الانغماس أكثر و أكثر في نزواته مبتعداً عن تنفيذ التعليمات التي تأتيه من المخابرات المصرية ورغم تحذيرهم له إلا انه تجاهلها وأخذ يساومهم بطلب أموال أكثر من المتفق عليه.
لم يكن لدى المخابرات المصرية الوقت الكثير ليضيعوه مع عميل يحاول ابتزازهم وخداعهم فكان القرار لابد من إحضاره للقاهرة فوراً و محاسبته.
صباح يوم ١٦ نوفمبر عام ١٩٦٤ أرسل له ضابط الاتصال رسالة تدعوه للحضور إلي سفارة الجمهورية العربية المتحدة في روما لكنه كان يشعر أن هناك ما يرتب له في الخفاء فاعتذر وفضل اللقاء في مكان آخر حدده بنفسه.
صباح يوم ١٧ نوفمبر عام ١٩٦٤ كان لوك على الموعد مع مشغله من الجانب المصري على مقهي باريس الراقي في وسط العاصمة الايطالية روما، كان في انتظاره على المقهي اثنان من المصريين، و أثناء تبادلهما أطراف الحديث قام أحدهما بوضع المخدر له في المشروب، وبعد دقائق بدأ لوك بفقدان الوعى تدريجياً، عندها قام الإثنان بإسناده بحجة أنه ثمل من كثرة الشراب، ووضعوه في سيارة كانت تنتظرهما في أحد الشوارع الجانبية، ومنها إلى إحدي الشقق التابعة لهم، ووضعوه مقيداً داخل صندوق كان قد أعد خصيصا لمثل هذه الحالات تمهيداً لنقله إلى القاهرة عبر طائرة الشركة العربية المتحدة التي ستتحرك بعد ساعات.
لم يكن المخدر الذي وضعه المصريون للوك كافياً لإيصاله إلى مكان شحن الحقائب داخل الطائرة دون حراك.
“يبدو أن القدر كانت له الكلمة الاخيرة”.
( انتظروا الحلقة القادمة)